فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (38- 41):

{رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)}
قوله تعالى: {رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ} أي، ليس يخفي عليك شيء من أحوالنا.
وقال ابن عباس ومقاتل: تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه من الوجد بإسماعيل وأمه حيث اسكنا بواد غير ذي زرع. {وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} قيل: هو من قول إبراهيم.
وقيل: هو من قول الله تعالى لما قال إبراهيم: {رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ} قال الله: {وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ}. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ} أي على كبر سني وسن امرأتي، قال ابن عباس: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة. وإسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد عشر ومائة سنة. {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ}. قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} أي من الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي واجعل من ذريتي من يقيمها. {رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ} أي عبادتي كما قال: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وقال عليه السلام: «الدعاء مخ العبادة» وقد تقدم في البقرة. {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} قيل: استغفر إبراهيم لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله. قال القشيري: ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه. قلت: وعلى هذا قراءة سعيد بن جبير، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ} يعني. أباه.
وقيل: استغفر لهما طمعا في إيمانهما.
وقيل: استغفر لهما بشرط أن يسلما وقيل: أراد آدم وحواء. وقد روي أن العبد إذا قال: اللهم أغفر لي ولوالدي وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع.
وقيل: إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم النخعي يقرأ: {ولولدي} يعني ابنيه، وكذلك قرأ يحيى بن يعمر، ذكره الماوردي والنحاس. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: {للمؤمنين} كلهم وهو أظهر. {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ} أي يوم يقوم الناس للحساب.

.تفسير الآيات (42- 43):

{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)}
قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن أعجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم، أي أصبر كما صبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران: هذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم. {إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ} يعني مشركي مكة يمهلهم ويؤخر عذابهم. وقراءة العامة {يُؤَخِّرُهُمْ} بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ}. وقرأ الحسن والسلمى وروي عن أبي عمرو أيضا {نؤخرهم} بالنون للتعظيم. {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ} أي لا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، قاله الفراء. يقال: شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه أي سما وطمح من هول ما يرى. قال ابن عباس: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون. {مُهْطِعِينَ} أي مسرعين، قاله الحسن وقتادة وسعيد بن حبير، مأخوذ من أهطع يهطع إهطاعا إذا أسرع ومنه قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر: 8] أي مسرعين. قال الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم ** بدجلة مهطعين إلى السماع

وقيل: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع، أي ناظرين من غير أن يطرفوا، قاله ابن عباس، وقال مجاهد والضحاك: {مُهْطِعِينَ} أي مديمي النظر.
وقال النحاس: والمعروف في اللغة أن يقال: أهطع إذا أسرع، قال أبو عبيد: وقد يكون الوجهان جميعا يعني الإسراع مع إدامة النظر.
وقال ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه. {مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ} أي رافعي رؤسهم ينظرون في ذل. وإقناع الرأس رفعه، قاله ابن عباس ومجاهد. قال ابن عرفة والقتبي وغيرهما: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه، ومنه الإقناع في الصلاة وأقنع صوته إذا رفعه.
وقال الحسن: وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد.
وقيل: ناكسي رؤوسهم، قال المهدوي: ويقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا طأطأ رأسه ذلة وخضوعا، والآية محتملة الوجهين، وقاله المبرد، والقول الأول أعرف في اللغة، قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ** كأنما أبصر شيئا أطمعا

وقال الشماخ يصف إبلا:
يباكرن العضاه بمقنعات ** نواجذهن كالحدء الوقيع

يعني: برءوس مرفوعات إليها لتتناولهن. ومنه قيل: مقنعة لارتفاعها. ومنه قنع الرجل إذا رضي، أي رفع رأسه عن السؤال. وقنع إذا سأل أي أتى ما يتقنع منه، عن النحاس. وفم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخل. ورجل مقنع بالتشديد، أي عليه بيضة قاله الجوهري. {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة النظر. يقال: طرف الرجل يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الآخر، فسمي النظر طرفا لأنه به يكون. والطرف العين. قال عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ** حتى يواري جارتي مأواها

وقال جميل:
أقصر طرفي دون جمل كرامة ** لجمل وللطرف الذي أنا قاصره

{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} أي لا تغني شيئا من شدة الخوف. ابن عباس: خالية من كل خير. السدي: خرجت قلوبهم من صدورهم فنشبت في حلوقهم، وقال مجاهد ومرة وابن زيد: خاوية خربة متخرقة ليس فيها خير ولا عقل، كقولك في البيت الذي ليس فيه شي: إنما هو هواء، وقاله ابن عباس: والهواء في اللغة المجوف الخالي، ومنه قول حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ** فأنت مجوف نخب هواء

وقال زهير يصف ناقة صغيرة الرأس:
كأن الرجل منها فوق صعل ** من الظلمان جؤجؤه هواء

فارغ أي خال، وفي التنزيل: {وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً} [القصص: 10] أي من كل شيء إلا من هم موسى.
وقيل: في الكلام إضمار، أي ذات هواء وخلاء.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44)}
قوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} قال ابن عباس: أراد أهل مكة. {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ} وهو يوم القيامة، أي خوفهم ذلك اليوم. وإنما خصهم بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي. {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي في ذلك اليوم {رَبَّنا أَخِّرْنا} أي أمهلنا. {إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} سألوه الرجوع إلى الدنيا حين ظهر الحق في الآخرة. {نُجِبْ دَعْوَتَكَ} أي إلى الإسلام. {وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}. فيجابوا: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ} يعني في دار الدنيا. قال مجاهد: هو قسم قريش أنهم لا يبعثون. ابن جريج: هو ما حكاه عنهم في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38]. {ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ} فيه تأويلان: أحدهما- ما لكم من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة، أي لا تبعثون ولا تحشرون، وهذا قول مجاهد.
الثاني- {ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ} أي من العذاب. وذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربعة، فإذا كان في الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون: {رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11] فيجيبهم الله {ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
ثم يقولون: {رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] فيجيبهم الله تعالى: {فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14] ثم يقولون: {رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيجيبهم الله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ} فيقولون: {رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] فيجيبهم الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]. ويقولون: {رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ} [المؤمنون: 106] فيجيبهم الله تعالى: {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] فلا يتكلمون بعدها أبدا، خرجه ابن المبارك في دقائقه بأطول من هذا- وقد كتبناه في كتاب التذكرة- وزاد في الحديث {وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ. وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ} [إبراهيم: 44- 45] قال هذه الثالثة، وذكر الحديث وزاد بعد قوله: {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعضهم في وجه بعض، وأطبقت عليهم، قال: فحدثني الأزهر ابن أبي الأزهر أنه ذكر له أن ذلك قوله: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35- 36].

.تفسير الآيات (45- 46):

{وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)}
قوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ} أي في بلاد ثمود ونحوها فهلا اعتبرتم بمساكنهم، بعد ما تبين لكم ما فعلنا بهم، وبعد أن ضربنا لكم الأمثال في القرآن. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {ونبين لكم} بنون والجزم على أنه مستقبل ومعناه الماضي، وليناسب قوله: {كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ}. وقراءة الجماعة، {وَتَبَيَّنَ} وهي مثلها في المعنى، لأن ذلك لا يتبين لهم إلا بتبيين الله إياهم.
قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} أي بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة، عن ابن عباس وغيره. {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ} {إِنْ} بمعنى {ما} أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال لضعفه ووهنه، {وَإِنْ} بمعنى {ما} في القرآن في مواضع خمسة: أحدها هذا.
الثاني- {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ} [يونس: 94].
الثالث- {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا} [الأنبياء: 17] أي ما كنا.
الرابع- {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81].
الخامس- {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ}
[الأحقاف: 26]. وقرأ الجماعة {وَإِنْ كانَ} بالنون. وقرأ عمرو بن علي وابن مسعود وأبي {وإن كاد} بالدال. والعامة على كسر اللام في {لِتَزُولَ} على أنها لام الجحود وفتح اللام الثانية نصبا. وقرأ بن محيصن وابن جريج والكسائي {لِتَزُولَ} بفتح اللام الأول على أنها لام الابتداء ورفع الثانية {وَإِنْ} مخففة من الثقيلة، ومعنى هذه القراءة استعظام مكرهم، أي ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال تزول منه، قال الطبري: الاختيار القراءة الأولى، لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة، قال أبو بكر الأنباري: ولا حجة على مصحف المسلمين في الحديث الذي حدثناه أحمد بن الحسين: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن دانيل قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن جبارا من الجبابرة قال لا أنتهى حتى أعلم من في السموات، فعمد إلى فراخ نسور، فأمر أن تطعم اللحم، حتى اشتدت وعضلت واستعلجت أمر بأن يتخذ تابوت يسع فيه رجلين، وأن يجعل فيه عصا في رأسها لحم شديد حمرته، وأن يستوثق من أرجل النسور بالأوتاد، وتشد إلى قوائم التابوت، ثم جلس هو وصاحب له من التابوت وأثار النسور، فلما رأت اللحم طلبته، فجعلت ترفع التابوت حتى بلغت به ما شاء الله، فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى؟ فقال: أرى الجبال كأنها ذباب، فقال: أغلق الباب، ثم صعدت بالتابوت ما شاء الله أن تصعد، فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى؟ فقال: ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدا، فقال: نكس العصا فنكسها، فانقضت النسور. فلما وقع التابوت على الأرض سمعت له هدة كادت الجبال تزول عن مراتبها منها، قال: فسمعت عليا رضي الله عنه يقرأ {وإن كان مكرهم لتزول} بفتح اللام الأولى من {لتزول} وضم الثانية. وقد ذكر الثعلبي هذا الخبر بمعناه، وأن الجبار هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، وقال عكرمة: كان معه في التابوت غلام أمرد، وقد حمل القوس والنبل فرمى بهما فعاد إليه ملطخا بالدماء وقال: كفيت نفسك إله السماء. قال عكرمة: تلطخ بدم سمكة من السماء، فقذفت نفسها إليه من بحر في الهواء معلق.
وقيل: طائر من الطير أصابه السهم ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث بها حدث من السماء، وأن الساعة قد قامت، فذلك قوله: {وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ}. قال القشيري: وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال. وذكر الماوردي عن ابن عباس: أن النمرود بن كنعان بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة، وجعل طول خمسة آلاف ذراع وخمسين ذراعا، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعا، وصعد منه مع النسور، فلما علم أنه لا سبيل له إلى السماء اتخذه حصنا، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه. فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعى الصرح عليهم فهلكوا جميعا، فهذا معنى {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} وفي الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان: أحدهما- جبال الأرض.
الثاني- الإسلام والقرآن، لأنه لثبوته ورسوخه كالجبال.
وقال القشيري: {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} أي هو عالم بذلك فيجازيهم أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف. {وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ} بكسر اللام، أي ما كان مكرهم مكرا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى، فالجبال مثل لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: {وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ} في تقديرهم {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ} وتؤثر في إبطال الإسلام. وقرى {لتزول منه الجبال} بفتح اللام الأولى وضم الثانية، أي كان مكرا عظيما تزول منه الجبال، ولكن الله حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} [نوح: 22] والجبال لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشيء هكذا تكون.